مع مطلع الألفية، وبالتحديد منذ انتشار الهواتف المحمولة بين عامَي 2000 و2005، أخذت اللغة مسارًا جديدًا داخل الفضاء الرقمي اللبناني وهي الحروف اللاتينيّة. فمع غياب لوحات المفاتيح العربية على الجيل الأول من الهواتف، لجأ المستخدمون إلى كتابة الكلمات العربية باستخدام الحروف اللاتينيّة، وأدخلوا معها أرقامًا تعبّر عن أصوات غير موجودة في الأبجدية الإنجليزية. سرعان ما تحوّل هذا الأسلوب، المعروف بـ Arabizi أو اللغة المعرّبة، من حلّ تقني مؤقّت إلى ممارسة لغوية راسخة تتجاوز الحاجة التقنية لتصبح جزءًا من لغة الحياة اليومية.
الأرقام الأكثر استخدامًا في هذه الكتابة – والتي تشكّل نظامًا صوتيًا بديلاً – هي:
2 = ء، 3 = ع، 4 = غ، 5 = خ، 6 = ط، 7 = ح، 8 = ق (عند البعض)، 9 = ص، 9’ = ض.
هذه الرموز تحوّلت إلى “أبجدية إلكترونية” غير رسمية يفهمها اللبنانيون بمختلف فئاتهم، حتى من لم يعتدوا الكتابة بها.
تُقرأ هذه الظاهرة ضمن سياق اجتماعي وثقافي واسع؛ فلبنان مجتمع متعدّد اللغات بامتياز، حيث يتداخل العربي بالفرنسي والإنجليزي في التعليم والإعلام والتواصل اليومي. وفي بيئة لغوية بهذا القدر من الانفتاح، بدا الانتقال إلى كتابة الحروف اللاتينيّة أمرًا طبيعيًا، خصوصًا بين الأجيال التي نشأت في ظل فضاءات رقمية مفتوحة وتأثرت بثقافة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. ومع مرور الوقت، لم تُستخدم هذه الكتابة فقط كلغة مراسلة، بل كجزء من هوية شبابية رقمية تُظهر سرعة، وخفّة، وارتباطًا بالعالم الحديث.
وبذلك، تصبح هذه الظاهرة مدخلًا لقراءة أوسع حول الهوية اللغوية في لبنان: هل يعيد الشباب إنتاج لغة جديدة تناسب واقعهم الرقمي؟ أم أنهم يبتعدون عن العربية بوصفها لغة “تقليدية” لا تواكب إيقاع العصر؟

ولا يمكن فصل انتشار ظاهرة كتابة الحروف اللاتينيّة عن محاولات سابقة لإعادة صياغة العلاقة مع الحرف العربي، أبرزها تجربة الشاعر سعيد عقل في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين قدّم مشروع كتابة “اللغة اللبنانية” بأبجدية لاتينية خاصة.
مهّد – بشكل غير مباشر – لفكرة إمكان استبدال الحرف العربي بآخر لاتيني. ومع دخول الإنترنت والهواتف المحمولة مطلع الألفية، وغياب لوحة مفاتيح عربية في الهواتف الأولى، وجد الجيل الجديد نفسه يعتمد شكلاً مبسطاً وأكثر عفوية من تلك المحاولات، فتحوّلت الكتابة الهجينة إلى ممارسة شعبية واسعة.
هكذا انتقلت الفكرة من مشروع ثقافي محدود إلى ظاهرة اجتماعية شبابية فرضتها التكنولوجيا وسرعة التواصل.
الحروف اللاتينيّة تغزو اللغة العربيّة
وفي مقابلة مع الاستاذة في اللغة العربيّة غيدا القاسم ذو خبرة ثماني سنوات في تعليم المراحل الابتدائيّة والمتوسطة والثانويّة في المدارس التالية؛ الايمان النمو ذجيّة, البيادر, دوحة هاي سكول, الايمان النموذجية الظريف,اجزمت ان كل من تواصل معها إلكترونياً كتب باللغة اللبنانية التي تعتمد على الحروف اللاتينيّة.
قالت ان يفضّل الطلاب كتابة الحروف اللاتيتيّة لانها تجمع بين اللغة الانجليزيّة المتداولة على وسائل التواصل والمجتمعات الحيّة، وبين لغتهم العربيّة الامّ.
اضافت ان التأثير الذي اعطى قيمة للغة اللاتينيّة او الإنجليزيّة على اللغة العربيّة هو تعديل المناهج لتغدو المواد العلمية اليومية تدرّس بالانجليزية، ولا علاقة لهذا التاثير في المدراس ثنائية اللغة ( الفرنسيّة / الانجليزيّة ) لان هذا النظام موجود منذ عقود.
واعتبرت ان التهديد الحقيقي بدأ من طريقة اولياء الامور في التواصل مع ابنائهم ومن الاهميّة المعطاة لهذة اللغة من قبل الاهل وليس اللاتينيّة، والفروقات باتت واضحة بين الاجيال في طريقة ولغة التواصل ونمط العيش.
لاحظت غيدا ضعفاً في قدرة الطلاب على كتابة العربية الفصحى بعد ان صار استخدام الحروف اللاتينيّة منتشر إلكترونياً بين الطلاب، واصبحوا عند سماعها يعتبر امراً شاقاً بالنسبة لهم.
تعتقد ان كان بإمكان وزارة التربية والوزارات المختصة مواكبة التكنولوجيا بكلماتنا العربيّة كما في دول الخليج. وقدرة اللغة العربيّة على توليد الكلمات من خلال ميزانها الصرفيّ لا تخفى على أحد، كما أنّ مجمعي اللغة العربيّة في القاهرة أو في الرياض يواكبون التطورات ويوظّفون مصطلحات جديدة تتناسب مع متطلبات الحياة اليومية.
اختتمت غيدا انها ترى اللغة العربيّة لا مكانة لها ولا حضور عند الاجيال الجديدة اليوم، وتعتبر الدور الاول يقع على عاتق وزارتيّ التربيّة والثقافة ومن ثمّ الاهل “فكلّ من يخرج من اصله خاسر”.
جيل جديد يكتب الحروف اللاتينيّة فقط
ايضاً الاستاذة في اللغة العربيّة ريم قطيش في مدرسة “المانور هاوس” للمرحلة الابتدائيّة ( الصف الثالث، الرابع، والخامس) وهي من اهم المراحل التأسيسيّة التي تُبنى فيها مهارات القراءة، الكتابة، والتعبير وتتشكّل علاقة الطالب باللغة العربيّة، تلاحظ انتشاراً واسعاً لاستخدام الحروف اللاتينيّة بين الطلاب خاصةً من الصفوف العليا في الابتدائية من خلال ملاحظات ميدانية ان استخدامهم لها في الحياة اليوميّة تصل تقريباً الى 80% عبر الهواتف، الالعاب الالكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي.
قالت ان هناك تأثير واضح لاستخدام الحروف اللاتينيّة على الطلاب، وتتمثل في:
١- الخلط بين العاميّة والفصحى
٢-اخطاء متكررة مثل حذف الهمزات، كتابة الاصوات كما تُنطق ليس كما تُكتب.
٣- استخدام الجمل القصيرة جداً او المفككة، على نمط الرسائل الالكترونية.
٤- قلّة حصيلتهم اللغويّة بسبب استبدال الكلمات العربيّة بمصطلحات ورموز انجليزيّة.
اعتبرت ان اللغة اللاتينيّة الالكترونيّة جعلت الطلاب اقل ميلاً للكتابة العربيّة لانها تقدم لهم بديلاً اسرع لا يحتاج منهم الى اتقان قواعد لغويّة، وبسبب البيئة الرقميّة التي تشجعهم على الاختصار والسرعة، اصبحت الكتابة العربيّة بقواعدها تبدو جهداً اضافياً.
قالت ان يفضّل الطلاب كتابة الحروف اللاتينيّة بسبب:
١- سهولة الكتابة على لوحات المفاتيح مقارنة بالعربية.
٢- تاثر الطلاب بالالعاب الالكترونية التي تستخدم الانجليزيّة.
٣- انتشار المحتوى الرقمي الموجّه للاطفال باللغة الإنجليزيّة.
٤-رغبة الطلاب في الشعور بالانتماء الى “اللغة الحديثة” المنتشرة على الانترنت واعتبارها لغة “عصرية” امّا العربيّة لغة تقليدية”.
ترى ان المدارس عززت من استخدام اللغات الأجنبيّة في الحياة اليوميّة للطالب، خاصةً ان هناك مواد عديدة تُدّرس بالانجليزيّة، وهذا الامر يحتاج الى توازن لضمان استمرار حضور العربيّة.
تعتقد ان التكنولوجيا ساهمت بشكل مباشر في تغيير انماط الكتابة لدى الطلاب خاصةً الاطفال ،والمنصات، الألعاب، والدردشة في التطبيقات لأنها كلها تعتمد نظاماً لغوياً سريعاً ومختصراً، ما يجعل الطالب يتبنّى هذا الأسلوب حتى في الكتابة الأكاديمية.
تلاحظ أن الجيل الحالي أكثر اندماجاً في العالم الرقمي، وأكثر عرضة لاستخدام الحروف اللاتينيّة الكترونياً مقارنةً بالأجيال السابقة، بينما قديماً قبل الهواتف كان هناك اكثر التزاماً بالكتابة الفصيحة والقراءة الورقيّة.
ترى ريم ان اعتماد الحروف اللاتينيّة في الكتابة الكترونياً مرحلة طبيعية في تطور التواصل، لكنها قد تصبح تهديداً إذا تُركت دون توجيه، وإنها ليست عدواً لكنها تحتاج إلى إدارة تربوية توازن بين سرعة العصر ومتطلبات اللغة.
قدّمت عدّة حلول عمليّة اثبتت فعاليتها الا وهي:
١- جعل العربيّة لغة ممتعة عبر العاب لغويّة وتحديّات وورش تفاعليّة.
٢- تعزيز القراءة من خلال قصص جذابّة وكتب تناسب اهتمامات الطلاب.
٣- دمج التكنولوجيا بخدمة العربيّة عبر تطبيقات تعليميّة ممتعة.
٤- تشجيع الطلاب على الكتابة الابداعيّة في دفاتر او منصات مدرسيّة.
٥- تنمية الوعي لدى الطلاب حول الهويّة اللغويّة واهمية الفصحى.
٦- التنسيق المستمر مع اولياء الامور لتقلبل استخدام “الفرانكو” و الاختصارات في الرسائل.
اختتمت ريم ان اللغة العربيّة تحافظ على نفسها حين نغرسها في الطفل بشكل صحيح منذ الصغر، الحروف اللاتينيّة والإلكترونية ليست خطراً بل فرصة للاقتراب من الجيل الجديد ثم إعادة توجيهه بهدوء نحو الفصحى.
” واجبنا كمعلّمين وأهالٍ أن نُبقي العربية حاضرة، جذابة، حيّة… فلا نُجبر الطالب على الاختيار بين لغة العصر ولغته الأم، بل نُعلّمه أن يجمع بينهما بوعي وثقة”.

هل يفضّل الطلاّب الكتابة بالحروف العربيّة ام اللاتينيّة؟
ساندرا تكتب بالحروف اللاتينيّة بشكل كامل عند تواصلها مع الأصدقاء والعائلة، لأنها اعتادت هذا الأسلوب منذ سنوات لما يوفّره من سرعة وسهولة واختصارات تجعل الدردشة أخفّ بين الشباب. وتلجأ إلى العربية الفصحى فقط في الإطار الجامعي، خصوصًا عند التواصل مع الأساتذة. وترى ساندرا أنّ الشخص الذي يكتب بالعربيّة على الهاتف يبدو إلى حدّ ما أكثر تقليديًّا، لأن هذا الأسلوب يعطي انطباعًا بالرسميّة والالتزام، بينما تبدو الكتابة المعرّبة أو اللاتينية أكثر عصرية وبساطة، وتعكس طبيعة التواصل السريع بين الجيل الجديد.

خديجة تكتب على الهاتف بمزيج من العربية والحروف اللاتينيّة، وتختار الأسلوب بحسب الشخص الذي تتواصل معه، فالعربية مع الكبار، واللاتينية مع الشباب. وتستخدم هذا المزيج في محادثاتها اليومية وفي مجموعات الجامعة، لأنه أصبح عادة اجتماعية أكثر منه خياراً لغوياً. وترى أنّ الكتابة بالعربية أبطأ قليلاً، لذلك تلجأ تلقائياً إلى الحروف اللاتينيّة، ما يجعلها أحياناً تنسى طريقة كتابة بعض الكلمات بالعربية. وتفضّل خديجة المزج الإلكتروني لأنه يسهّل عليها التعبير، وتعتبر أنّه لغة الجيل الجديد، رغم أنّ كل الفئات العمرية باتت تستخدمه بنسب مختلفة. وفي النهاية، تؤكد أنّها ستستمر بالتواصل عبر الحروف اللاتينيّة لأنها تشعر بانسجام مع هذا الاسلوب اكثر من العربيّة.

ريان تكتب عادةً بالعربيّة ونادرًا باللاتينيّة، لأنها اعتادت العربيّة منذ المرحلة الثانوية، حيث بدأت استخدامها بشكل يومي مع أصدقائها. وتلجأ إلى الحروف اللاتينيّة فقط مع بعض الأصدقاء الذين يكتبون بها في الدردشات الخاصة. وتشعر أن سرعة الكتابة لم تعد تختلف بين اللغتين، بعدما أصبحت قادرة على الكتابة بالعربية واللاتينية بالوتيرة نفسها. وترى أن البعض يجد العربية أبطأ بسبب عدم الاعتياد عليها، بينما هي تعتبرها الأسهل والأقرب لها.
وتعترف بأن استخدامها السابق للكتابة اللاتينية اثّر قليلًا على قدرتها في الفصحى، لذلك تفضّل التواصل بالعاميّة في المحادثات اليومية، وتستخدم الفصحى فقط في الرسائل الرسمية. وبرأيها، الاعتماد الواسع على الحروف اللاتينيّة يضعف حضور العربية بين الأجيال، رغم أن اللغة لن تُمحى ولكن قد ينخفض مستوى إتقانها. وعلى الرغم من انتشار اللاتينية، تؤكّد ريان أنها تستمر بالكتابة بالعربية لأنها جزء أساسي من هويتها.
العلاقة مع الحروف اللاتينيّة
لقد تحوّلت الحروف اللاتينيّة خلال العقدين الأخيرين إلى جزء ثابت من يوميات اللبنانيين، من مختلف الفئات العمرية. لم تعد مجرّد خيارٍ مريح على الهاتف، بل أصبحت لغة تواصل معترف بها شعبياً، إلى حدّ أنّ الكتابة بالعربية على التطبيقات باتت تُواجَه نظرياً بنوع من الاستغراب، وكأنّ صاحبها ينتمي إلى زمن «قديم» أو «تقليدي» لا يواكب إيقاع العصر. ومع أنّ هذه النظرة لا تعبّر بالضرورة عن موقف واعٍ تجاه اللغة، إلّا أنّها تكشف الكثير عن التحوّلات العميقة في علاقة المجتمع بلغته الأم.
لكنّ هذه الظاهرة، مهما بدت راسخة، تفتح اليوم أسئلة جديدة تتجاوز ثنائية “تطوّر” مقابل “تراجع”. هل نشهد ولادة أسلوب لبناني جديد في الكتابة يمكن أن يتطوّر إلى شكل لغوي معترف به؟ أم أنّ الاستخدام المتزايد للحرف اللاتيني قد يعمّق الفجوة بين الأجيال ويضعف الرابط بالهوية اللغوية المشتركة؟
